
العلاقة بين المخاطر (Risk) وعدم اليقين (Uncertainty)
تُعدّ إدارة المخاطر أحد الأعمدة الأساسية في علم إدارة المشاريع، والإدارة الاستراتيجية، وحتى في مجالات الاقتصاد والتخطيط المالي. غير أنّ مفهوم المخاطر (Risk) لا يمكن فهمه بشكلٍ كامل دون التطرّق إلى مفهومٍ ملازمٍ له وهو عدم اليقين (Uncertainty). فكلا المفهومين يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بعملية اتخاذ القرار في بيئةٍ تتسم بالتغيّر المستمر وعدم الاستقرار. ومن هنا، فإن فهم العلاقة بينهما يُعدّ خطوةً جوهرية في تحسين جودة القرارات والتنبؤ بالنتائج المستقبلية.
أولاً: تعريف المخاطر (Risk)
تُعرَّف المخاطر بأنها احتمالية وقوع حدثٍ يؤثر سلبًا أو إيجابًا على أهداف المشروع أو النشاط. أي أنها تمثّل مزيجًا من احتمالية الحدث وتأثيره المحتمل. في إدارة المشاريع، على سبيل المثال، قد تتمثّل المخاطر في تأخير تسليم الموارد، أو زيادة تكاليف التنفيذ، أو انخفاض جودة المخرجات. وتُقاس المخاطر غالبًا من خلال معادلة بسيطة:
المخاطر = احتمالية وقوع الحدث × حجم تأثيره
وهذا يعني أنّ المخاطر ليست مجرد حالات غامضة، بل يمكن تقديرها وتحليلها بناءً على البيانات والمعرفة المتاحة.
إنّ جوهر مفهوم المخاطر هو قابلية القياس، إذ يمكن تحديد احتمالية حدوثها بشكلٍ تقريبي باستخدام البيانات التاريخية أو النماذج الإحصائية أو التجارب السابقة. ولهذا السبب تُعتبر المخاطر ظاهرة “قابلة للإدارة”؛ أي يمكن اتخاذ إجراءات لتقليل احتمالاتها أو تخفيف آثارها.
ثانيًا: تعريف عدم اليقين (Uncertainty)
أمّا عدم اليقين فهو حالة تختلف جذريًا عن المخاطر. فبينما يمكن قياس المخاطر بدرجةٍ معينة من الدقة، فإنّ عدم اليقين يشير إلى غياب المعرفة الكافية لتحديد الاحتمالات أو التنبؤ بالنتائج المستقبلية. أي أنّنا لا نملك معلومات كافية عن ما يمكن أن يحدث، أو حتى عن طبيعة الأحداث الممكنة نفسها.
على سبيل المثال، عند تطوير تقنية جديدة لم تُجرّب من قبل، لا يمكن معرفة ما إذا كانت ستنجح أو تفشل، ولا يمكن تحديد احتمال نجاحها أو فشلها بدقة. هذا الموقف هو عدم يقين تام.
إذن، يمكن القول إنّ المخاطر قابلة للقياس بينما عدم اليقين غير قابل للقياس.
ثالثًا: الفرق الجوهري بين المخاطر وعدم اليقين
لتوضيح الفارق، يمكن الاستعانة بالمثال الكلاسيكي الذي طرحه الاقتصادي فرانك نايت (Frank Knight) عام 1921، حيث ميّز بين المخاطر (Risks) التي يمكن حساب احتمالاتها، وبين عدم اليقين (Uncertainty) الذي لا يمكن حسابه.
| المقارنة | المخاطر (Risk) | عدم اليقين (Uncertainty) | 
| التعريف | حالة يمكن فيها تقدير احتمالات الأحداث | حالة لا يمكن فيها تقدير الاحتمالات | 
| إمكانية القياس | قابلة للقياس والتحليل | غير قابلة للقياس بدقة | 
| المصدر | نقص جزئي في المعلومات | غياب شبه تام للمعلومات | 
| أسلوب المعالجة | تحليل إحصائي وإدارة احتمالات | اتخاذ قرارات مبنية على التقدير والخبرة | 
| المثال | احتمال تأخر المورد بنسبة 30٪ | ظهور تقنية جديدة غير معروفة النتائج | 
من هذا المنطلق، يُمكننا اعتبار أن كل المخاطر تنطوي على درجة من عدم اليقين، لكن ليس كل عدم يقين يمثل مخاطرة قابلة للقياس.
رابعًا: العلاقة بين المخاطر وعدم اليقين في بيئة الأعمال والمشاريع
في إدارة المشاريع، يكون النجاح مرهونًا بمدى قدرة المديرين على التعامل مع البيئة غير المؤكدة. فكل مشروع يبدأ في ظل عدم يقين أولي يتعلق بالموارد، والتقنيات، والسوق، والعوامل التنظيمية. ومع تقدم مراحل المشروع، تبدأ المعلومات بالوضوح التدريجي، فيتحول جزء من هذا “اللايقين” إلى “مخاطر” يمكن إدارتها.
على سبيل المثال، عند بدء مشروع لبناء منتج جديد، قد لا تعرف الشركة مدى تقبّل السوق للمنتج. هذا عدم يقين. ولكن بعد إجراء دراسة تسويقية، قد يظهر أنّ هناك احتمالًا بنسبة 60٪ لقبول المنتج و40٪ لرفضه. هنا تحوّل عدم اليقين إلى مخاطرة قابلة للقياس والتحليل.
إذن، يمكن القول إن العلاقة بين المفهومين علاقة تحوّل تدريجي؛ فكلما ازدادت المعرفة والمعلومات، انتقلنا من حالة “عدم يقين” إلى حالة “مخاطر”، والعكس صحيح إذا انخفضت كمية المعلومات المتاحة.
خامسًا: أهمية فهم العلاقة بين المفهومين في اتخاذ القرار
اتخاذ القرار في بيئة العمل لا يخلو أبدًا من أحد هذين المفهومين. فالقائد الناجح هو من يملك القدرة على تمييز الموقف:
هل هو موقف مخاطرة يمكن حسابها؟ أم موقف عدم يقين لا يمكن التنبؤ بنتائجه؟
هذا التمييز يحدّد الاستراتيجية المناسبة للتعامل مع الموقف:
- في حالة المخاطر، يمكن الاعتماد على أدوات التحليل الكمي مثل: تحليل الحساسية (Sensitivity Analysis)، ومحاكاة مونت كارلو (Monte Carlo Simulation)، وتحليل القيمة المتوقعة (Expected Value).
- أمّا في حالة عدم اليقين، فالأمر يعتمد أكثر على التحليل النوعي، والتجربة، والحدس، والتخطيط المرن.
ففي ظل عدم اليقين، لا يمكن وضع خطط جامدة، بل ينبغي بناء سيناريوهات متعددة وتبنّي ثقافة التعلّم المستمر.
سادسًا: من منظور الاقتصاد والإدارة الاستراتيجية
في الاقتصاد، يُعدّ التمييز بين المخاطر وعدم اليقين من القضايا الجوهرية التي تحدد سلوك المستثمرين والأسواق. فعندما يكون المستثمر قادرًا على حساب احتمالات الخسارة والربح، فهو يتعامل مع مخاطر، ويمكنه اتخاذ قرار استثماري بناءً على العائد المتوقع.
أما إذا كان السوق جديدًا أو مليئًا بالمتغيرات المجهولة، فإنّ القرار يتخذ في ظل عدم يقين، مما يجعل العائد المتوقع غير مضمون، ويحتاج المستثمر إلى روح المغامرة أو ما يُسمّى “تحمّل عدم اليقين”.
كذلك في الإدارة الاستراتيجية، فإنّ الشركات التي تعمل في بيئات ديناميكية مثل التكنولوجيا أو الابتكار تواجه مستويات عالية من عدم اليقين الاستراتيجي، حيث لا يمكن التنبؤ بمستقبل الصناعة أو ردود أفعال المنافسين بدقة. لذا تعتمد تلك الشركات على المرونة الاستراتيجية والتحليل المستمر للبيئة بدلاً من الخطط الثابتة طويلة الأجل.
سابعًا: كيفية التعامل مع المخاطر وعدم اليقين
1. إدارة المخاطر (Risk Management):
تشمل مجموعة من العمليات المنهجية تبدأ بـ:
- تحديد المخاطر: حصر الأحداث المحتملة التي قد تؤثر على المشروع.
- تحليل المخاطر: تحديد احتمالية وتأثير كل خطر.
- تخطيط الاستجابة: وضع خطط لتجنب أو تقليل أثر المخاطر.
- مراقبة المخاطر: متابعة مستمرة أثناء تنفيذ المشروع.
2. إدارة عدم اليقين (Uncertainty Management):
وهي أكثر شمولًا وتركّز على:
- جمع المعلومات وتحليل البيئة لتقليل الغموض.
- التخطيط بالسيناريوهات ووضع بدائل مرنة.
- تبنّي ثقافة الابتكار والتعلّم السريع لمواكبة التغيرات.
من المهم هنا إدراك أنّ إدارة عدم اليقين لا تسعى إلى “إزالته”، بل إلى فهمه والسيطرة على تأثيراته عبر التهيؤ المسبق والتكيّف المستمر.
ثامنًا: التكامل بين المفهومين في إدارة المشاريع الحديثة
تتجه النظريات الحديثة في إدارة المشاريع نحو الجمع بين المفهومين ضمن إطار واحد يُعرف باسم “إدارة المخاطر وعدم اليقين“، حيث يُنظر إلى المشروع ككيانٍ ديناميكي يتطور باستمرار مع تغير المعطيات.
فعلى سبيل المثال، في منهجيات الإدارة الرشيقة (Agile Management)، يتم التعامل مع عدم اليقين عبر التخطيط التكراري والتغذية الراجعة السريعة، مما يقلل تدريجيًا من المخاطر مع كل دورة تطوير.
كما تُستخدم أدوات مثل خرائط عدم اليقين (Uncertainty Maps) لتحديد المناطق التي تفتقر للمعلومات، وبالتالي تحويلها تدريجيًا إلى مخاطر يمكن قياسها وإدارتها.
تاسعًا: العلاقة الديناميكية بين المفهومين
يمكن تشبيه العلاقة بين المخاطر وعدم اليقين بـ “الطيف” الذي تقع على أحد طرفيه اليقين الكامل، وعلى الطرف الآخر الجهل التام. وبينهما تقع المخاطر وعدم اليقين الجزئي.
فكلما ازدادت المعرفة، اقتربنا من منطقة المخاطر القابلة للقياس، وكلما قلت المعلومات، انجرفنا نحو حالة عدم اليقين.
من هنا، يُعدّ الهدف الرئيس للمديرين والمخططين هو نقل الموقف من حالة عدم يقين إلى حالة مخاطرة عبر جمع البيانات والتحليل المستمر، لأن إدارة المخاطر ممكنة بينما إدارة عدم اليقين الكامل تكاد تكون مستحيلة.
عاشرًا: الخلاصة
في النهاية، يمكن القول إنّ العلاقة بين المخاطر وعدم اليقين علاقة ترابط وتحول. فالمخاطر تمثل الجانب القابل للقياس من عدم اليقين، في حين يشير عدم اليقين إلى الجهل النسبي بالمستقبل. وكلما زادت المعرفة والتحليل، تقل درجة عدم اليقين وتزداد القدرة على إدارة المخاطر.
إنّ إدراك هذه العلاقة لا يساعد فقط على تحسين اتخاذ القرار، بل يُعزّز أيضًا من مرونة المؤسسات واستدامتها في بيئة تتسم بالتقلب والتغير المستمر. فالعقلية الإدارية الواعية اليوم لا تكتفي بتجنّب المخاطر، بل تسعى إلى فهم اللايقين وتحويله إلى فرصة.

 
					

